كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ} الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ- يَتُوبُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ؛ إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا؛ لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [3: 16، 17] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [3: 135] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ اسْتَثْقَلَتِ التَّكَالِيفَ لِجَهْلِهَا بِفَائِدَتِهَا، فَفَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاتَّبَعَتْ أَهْوَاءَهَا، وَجَعَلَتْ حَظَّهَا مِنَ الدِّينِ بَعْضَ الْأَذْكَارِ، وَالْأَوْرَادِ السَّهْلَةِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا شَيْئًا، فَصَارَ الدِّينُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [47: 24].
بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} وَلَمْ يَقُلْ هُنَا، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} إلخ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَلَكَاتِهَا، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ؛ بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ؛ وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ هُنَاكَ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ.
قَالَ: وَقَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَاهُنَا: قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا. وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ؛ وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ {يَتُوبُونَ} هُنَاكَ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ {عَلَى اللهِ} فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ؛ لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا.
قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ- رَحِمَهُ اللهُ- فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَالْبَسْطِ، وَالْإِيضَاحِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ- وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لاسيما بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [23: 107] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ، وَهُوَ- أَيِ الْغَزَالِيُّ- لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا كُنْتَ جَائِعًا وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا طَعَامًا أَخْبَرَكَ رَجُلٌ يَهُودِيُّ لَا تَثِقُ بِرِوَايَتِهِ فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، أَفَلَا تَبْنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَتْرُكُ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ؟ بَلْ إِنَّكَ لَتَقُولُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِلْهَلَاكِ بِهَذَا الطَّعَامِ! وَقَدْ أَخْبَرَكَ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ لِلْأَرْوَاحِ مُفْضِيَةٌ إِلَى سُخْطِ اللهِ، وَعَذَابِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْجَزْمَ بِصِدْقِهِ، وَأَنْتَ تَجْعَلُ خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ!؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ: الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.